بيانو
لا ضير ..
بعضُ الفقدِ حُب.!
سنةٌ وغصّةٌ ونيّفٌ من الهجر ، وأنا لا زلتُ أرثيه على طرقاتِ اللارجوع .
بعدَ حبٍّ أحرقَ الأزرقَ واليباس ، قَررنا الرّحيل بكامل العِرفان لوعينا أننا متوازيين مهما امتدَّ بنا العُمر ، لن نلتقي.
عامٌ جاعَ فيهِ النّبضُ لصدفةِ لقاءٍ صادقةٍ ،وولائمنا فارغة .
حتّى ذاك اليوم ..
كنتُ كالطّريدة في الشّارع ، طيفٌ ما يلاحقني ولا أدري ماهو.
أبحثُ عن آلة بيانو بسعرٍ جيّد ، ولكنّي لم أصبُ لمُبتغايَ حتّى قاربت السّاعة التّاسعة .
توجّهتُ نحو صالةِ عرضٍ كبيرة ، صوتُ عزفِ البيانو قادني رُغماً عنّي.
دخلتُ الصّالة ، ألقيتُ السّلام على العازف الشّاب ، ابتسمَ بلطفٍ ، وحين أمعنتُ النّظر في ملامحه ، أيقنتُ أنه هو حازم ولكنه كبر قليلاً.
استجمعتُ باقي قواي المنهارة، واستندتُ على طرفِ الكرسيّ ، ثمّ طلبتُ منه شراء آلة البيانو .
تساءلتُ في سرّي ، منذُ متى أصبح عازفاً ؟!
وبعدَ عدّة مناقشاتٍ ، اتفقنا على سعرٍ يُرضينا كلينا .
يالبروده المُستفز ، وكأننا لا ندينُ لبعضنا بقليلٍ من الذّكرى.!
صلبتُ لساني قبل أن يتفوّه بعتبٍ يُقلّل من قدري ويطرحُ كبريائي صريعَ شوقيَ الثّائر.
أعطيته المال وبكلّ ود استئذنت الرَّحيل .
دمعٌ شرهٌ باغتَ مقلتيَّ ، ولكنّي أغمضته قبلَ أن يلتِهمَ ماتبّقى منّي بعد هذا اللّقاء.
أحضرتُ سيّارةً لحملِ آلتي ، وحين دخلتُ مرّةً أخرى سمعتُ شاباً ينادي العازفَ : إبراهيم
استيقظتُ فجأةً ، وابتلعتُ وهمَ بصري ، حتّى أني أكّدتُ في ملامحه ، إبراهيم ؟؟ ولكنّه حازم ! هل غيّر اسمه أيضاً ؟!
أنا قد جننتُ حتماً حين حسبتُ شخصاً يشبهُ حازم أنه هو.!
تلوّنت أمامه و تلعثمت و تعثّرتُ بجنوني ، وهو ليسَ هو .!
شكرتُ العازف على لطفه ورحلت .
همست لنفسي ، أربعين شبيهاً سيُجهزون عليكِ حتماً ، إن لم تتخلّصي منه بسرعة.!
صباح اليوم التالي ،أحضرتُ لنفسي كوبَ قهوةٍ كبيرٍ ، وجلستُ أمام البيانو أحاول العزف ،رنّ جرسُ الباب ، وبخطواتي المتثاقلة فتحتُ له ، تراجعتُ خطوتين ، وأغمضتُ عينيّ لأرى بوضوح.!
كان الشّاب يشبه حازم جداً .
سألته بحزم :
_من أنت ؟
_ مابكِ ياميرا ؟ تناسيتني بسرعة .! أنا حبيبك حازم .
_ لست حازم..! أنت خالد ، عمر ، زيد ، إبراهيم
_ماذا؟ ؟!!
_ أنا الآن أتهيّأ حديثاً بيني وبين حازم أيضاً ، هذا الوغد سيودي بي إلى الجنون حتماً.!
_ميرا ؟؟
تقدّم حازم وحاول أن يلمسَ يدي ، عَلّي أُذاكر امتحانَ العودة من جديد .!
تفاجأتُ وصفعتهُ بقوّة
_أيها الوقح ، كيف تجرّأت؟!!
_ميرا العصبية ، المجنونة .. أنا حازم
أغمضت عينيّ من جديد ، وصفعتُ الباب بوجهه.
نزلَ حازم أدراجهُ خائباً ، وهو يتمتم :
_هذهِ المرّةُ العاشرة أزوركِ فيها ولاتذكريني.!
اطمئني ياميرا ، لن أملّ حتّى تعودي إليّ بِكُلّك .
وكأنّي لم أسمع حَديثه ، عُدتُ لآلة البيانو ، وبدأت العزف .
انحنَت أصابعي أمام الزرّ الأول ، وبارتجافٍ أخبرته أن الشّابّ الذي رأيتُه في المقهى يهمسُ للفتاةِ أنه يُحبّها ، يُشبهُ حازم كثيراً .
تراقصَ الوجع عندَ الزرّ الثّاني وعزفتُ له لحنَ حفلةِ يومِ مولدي العامَ الماضِي ، انتظرتُه حتّى السّاعة الحادي عشرة ، وذاكَ الذي لمحتُه من شباك نافذتي مسرعٌ بسيارته وبجانبهِ فتاةٌ لعوبٌ ، أوصلها وعاد إلي ، لم يكن حازم ، هو شبيهه التاسع بعد العشر.!
تجمّدت عروقي ، حاولتُ الإتيانَ بذكرى تحفظُ لهُ ماءَ وجههِ الحقيقي ، تيبستْ أصابعي وانقطعَ اللحن.!
حازمٌ نفسه الذي أمرني بملازمةِ المنزل وتركِ معهد الموسيقى بحجّةِ غيرته ، لايُشبهه حتماً.
تجاهلتُ ألمَ أصابعي وبدأت العزف ، زرّاً تلوَ آخر ، تناغمتُ مع الموسيقى وَ أكملتُ اللّحن .
ذاكرةً تدفعها أخرى ، قتلته ،بكلّ أوتار النّداء فقدتُه.!
إرسال تعليق