" تبّاً لك أيها السرطان " لـ أيهم سنجاب -->

إعلان أدسنس

آخر المواضيع

breaking/مقالات/9

الثلاثاء، 24 أكتوبر 2017

أكتوبر 24, 2017

تكبير النص تصغير النص أعادة للحجم الطبيعي


في اليوم الثاني من الشّهر الثاني عشر بدأ شعري بالتساقط، وبدأت دموعي تتساقط من مقلتيّ، وكانت تسيل حدّ الامتزاج بالدم. كبُرَ أبي مئةَ عامٍ، وصار كهلًا عاثَ عليهِ غبار السنين. أوّل جرعةٍ كيميائية أشعلت جسدي، جرت في وريدي وحرقت أعصابي. لم أستطع تحمل الألم، إلى أن وصلت لمرحلة خانت فيها الدموع كبريائي. أمي وأبي يزدادان حزناً ومرارةً مع مرور الأيام، أنهك المرض جسدي ، ولم يعد لوالدي قدرة على الأكل أبدًا، لم يهنأْ لنا عيشٌ، تباً لك أيُّها السرطان على هذا التعب الذي منحتنا إياه. أذكر يوم ذهابي للمدرسة بعد أوّل جرعة، كنت جثّةً هامدة، بلا شعر، شاحب اللون والقلب، منهك الروح، كدمات وقروح اجتاحت معظم جسدي، فقدت الشهية، جسدي كان يغلي كما البركان كأنه اختبأ في الجحيم دهرًا، تجرّدت من إحساسي بحربٍ ضارية مع مرضي، ضحك مني الكثيرون، كانت ضحكاتهم على رأسي الأصلع ولوني الأصفر وجسمي الهزيل، تحوّلت سخريتهم إلى سكّين قطّعت ما تبقى لي من حبلِ أملٍ أتعلّق به، كي لا أغرقَ ببئرِ اليأس لكنّني بالواقع قد غرقت ووصلت للقاع أيضاً. حالتي اضطربت أكثر، تمّ نقلي إلى مركزِ العناية بمرضى السّرطان. في بهوِ الانتظار، رأيتُ طفلًا لم يتجاوز العشر سنوات فاقدًا حركته وراضخًا على كرسيه مشلولًا عن الحركة وعن الحياة أيضاً ، يستقبله حضنٌ قاسٍ لإحدى العاملات ليأخذه إلى مكان إقامته، كان والده يتابع بكلِّ جوارحه المصابة بداء الحزن والقهر. لا أدري لماذا أطفال السرطان يختلفون عن باقي الأطفال! هم أكثرُ براءةً من غيرهم، وأقرب للقلب ممن سواهم، ترسخ صورهم في الذهن، وتبقى ذكرياتهم بالبال لا تفارقه، بل أذكر حتّى نبرات أصواتهم وروائح أجسادهم. لمحتُ عجوزًا منحني الظهر، يتّكئ على عكاز الزمن في حالة لاوعي تام، يداهمه السعال ثلاث مرات متتالية ثم يزفر بتنهيدةٍ تحمل آلام الحياة. لاحظت أنّ أكثرَ الناس رأفةً وحنانًا في هذه الحياة هم عمال هذا المركز، علاقتهم مع المرضى تجسّد أسمَى وأقدس مقامات الإنسانيّة و الرحمة. جلستُ في غرفتي التي تحمل الرقم (12)، تشبه سردابًا مظلمًا، تكوّرتُ في هذه الغرفة اثني عشر شهرًا، تزورني امرأةٌ مسنة كلَّ يومٍ، علِمتُ أنها توفيت بهذا السرداب منذُ سنواتٍ على هذا السرير. تقول لي: قد تخسرُ معركةً ضدَّ هذا اللعين، لكن احذر أن تخسرَ الحرب، كن متمردًا عليه، وستنتصر. طبيب الصباح عبارةٌ عن بستانيّ يتفقّدُ حال الزهور كلَّ يوم، لتأتيَ كلُّ أمٍّ وتسأل عن حال زهرتها. يا أمّي، قد ذبُلَت زهرتك، أين أنت منها. يقلّب طبيبي أوراقَ الفحوصات، ويعلم أنّ سرطانَ الدم قد نال مني، تسأله أمّي متأملة تحسّنًا في وضعي الصحي، يبتسم الطبيب ابتسامةً شاحبة ويكذب كل مرة ويقول أنّ وضعي ممتاز. يا له من كاذب! كانت لي أمنية واحدة وهي أن يُصابَ السّرطانُ بسرطانٍ فيموت. مرّتِ الأيام، ومع مرورها كانت تتساقط حالتي من سوءٍ إلى أسوأ كشجرةٍ زارها الخريفُ بغتةً في أوّل الربيع. في الثانية عشرَ بعد منتصف الليل زارني الموتُ وقال إنّه أشفق عليَّ ويريد تخليصي من هذا العذاب، فتح فجوةً صغيرة داخلي، وألقى بذرةً لاثنتي عشرة زهرة، دقَّ قلبي اثنتي عشرة دقّةً لتتحوّلَ أوتاره إلى كمانٍ يعزف مرثيةً لي، فتسكب العيون من سوادها قهوةً مُرّةً في عزائي. رحلتُ إلى الله مشتكيًا هذا المرض، داعيًا أن يأخذَ منه ما اخذ مني، بقدر ما بعثر وحطّم لي من سعادة وكبرياء، شاكرًا الموت الذي عطفَ عليَّ وخلّصني من عذابي وألمي المجوّف الذي لا يعلم مقداره إلا الله وأنا. بعد الدفن نبض قلبي اثنتي عشرة نبضة، جعل من دمي المسرطن ماءً ليسقي البذور في داخلي لتنبت اثنتي عشرة زهرة على ثرى جثماني، وأزهر.

إرسال تعليق

شظايا مبدعة