يقف وحيداً، عيناه كشمسٍ خافتة الوهج ، بلا دماء تجري في عروق وجنتيه.
حائراً كنجمٍ ولدَ فجرَ الحياة ، وبقيَ معلقاً بزرقة الصباح.
" اللهمَّ قوة " قال هذا ورمى بجثته المتهالكة على تلٍ من ترابٍ رطب .
التعب أكل من تعابيره وشرب على تجاعيدها كأس القهر.
شعره كقوس قزح ثنائي اللون ، بلونين أساسيين كبياض الموت، وسوادٍ كحياته.
بات صوته يبدع بترانيم الحزن كما الناي هزيل وحزين
التوق أخذ كامل حصته من إرث أيامه ، وبات روتين الفقد يتسكع ببقية ما كان يملك .
هو الانتظار لا شيء آخر ، وحده يهزأ من ابتسامة شفتيه الجافّة.
نهض عن الكومة الرطبة، وكأن عظاماً تتفجر صوتاً حينما نهض .
بتثاقل يسير ويترنّح كورقة أيلول برياح ناعسة
حملَ عكازة ناظريه ومشى ، مشى طويلاً
وصلَ لظلال شجرةٍ بلون الحياة
أسند ظهره عليها ووقف يتأمل لعلّه يتذكر ، فمنذ ثلاث سنوات لم يجد نفسه إلا بقريةٍ جبلية لا ينتمي لها فاقداً لذاكرته ، ولا شيء يعبث بها إلا صوتٌ واحدٌ لأنثى لم تحضر من ذكراها سوى بضع كلمات : " جوتيار...جوتيار انتبه سنقع في الوادي ! "
لا يعلم من هو !
ولا لأي مكانٍ ينتمي!
كل ما يعلم أن آخر من رآه هي!
وآخر من أدخلت على مسامعه حروف اسمه أيضاً هي!
فمن تكون هي !؟
-2-
عصر الثلاثاء منذ حوالي الثلاثة أعوام، الجو معتدل جداً والساعة تقارب الرابعة
الطرقات مزدحمة، والطريق المتجهة من داخل البلاد لمناطقها الساحليه تعج بالسيارات ، على مفرق مدينة جبلية صوت يُسمع من مركبة زرقاء اللون ومسرعة
_سنصل خلال نصف ساعة "قال جوتيار"
+الحمدلله كانت رحلة جيدة لولا تهورك في القيادة "قالت متذمرة"
_لا..لم أسرع كثيراً ، المسافة طويلة والحافلة تلتهم المسافات
+دائم الشغب أنت ،آهٍ منك! ، خفف من سرعتك إن الدرب منحدرة " قالت هذا ونبرة صوتها تختلف"
_لا عليكِ.. تعلمين أني لا أحب أن أصل متأخراً
جاءت لحظة القدر فجأةً
+ " جوتياااار...جوتياااار انتبه سنقع في الوادي" صرخت مدوية ضجيج الموت
سقطت المركبة من عِلُ لتستقر في حضن الوادي
•الخامسة فجراً لعام 2017
استيقظت باكية صارخة من كابوسها الذي جثم على لياليها
إنها الحادثة ذاتها تعاود لذكراها ...
غمرت تفاصيل وجهها بكفيها وبدأت بالنحيب
+" أين أنت ياولدي؟ وعلى أي ثرى مدينة تنام يا أيها الفقيد، آه منك ومن سرعتك ياجوتيار ،وآهٍ من وادٍ غير ذي رحمة ولا حياة .
بنيّ ما عاد لي سندٌ أيا سندي، أيا كلي
اشتاق ضحكاتك كما يشتاق البحر لعطاء الغيمات، تعال وامطرني أو أرقد بسلام!
أمت حقاً؟ أم لم تزل تستنشق ذات هوائي؟ وإن متّ أين جثمانك يا فلذة أحزاني؟! ويا نبض الفقد وعجز استيعابي
كم أناديك وفي صدري آهات كرعد سماء الشتاء.
نهضت من سريرها كما ينهض ثائرٌ بجسده المنقوش بطعنات الحياة،
منكسرة في مشيتها ومترنحة التوازن ..عيناها كالؤلؤتان تشعان حزناً .
خرجت لشرفة منزلها وضمت يديها كما لو أنها ضمت ابنها بهما ورفعتهم لمناجاة ربها
"ربي أعلمني بحاله، إن كان ميتاً أو شارداً بحياته، ربي اثلج غليان عروقي بخبرٍ عنه أو عن ترابه " يرحمك الله يا بنيّ إن كنت فوق الأرض أم تحت طيات التراب
وانهارت باكية على كرسيّ الشرفة البائس واسندت رأسها ناجية ناحبة على طاولةٍ صماء
ايقظها صوتٌ من خلفها أتى
-أمي ماذا تفعلين هنا في هذا الوقت؟
3
مستلقٍ على أريكتهِ، الوقتُ فجرٌ والشمس باردة.
يتتبع دوران مروحة الهواء، سكون الغرفة أشبه بعيونٍ خرساء، كعادته يشرد كثيراً ويفكر "أنا هنا بصحةٍ جيدة ولكن ماذا حلّ بها؟ وأنا لأي مكانٍ انتمي ؟ وأي دينٍ كنت أسير على نهجه؟ ياترى هل...)
شقَّ سكون أفكاره صراخٌ وقرع باباً يكاد يتشقق خشبه من هول السرعة
_ جوتيار ساعدني ابنتي في حالةٍ يرثى لها متعبة جداً " قال هذا جاره"
+ماذا أفعل يا عمّ ، أشر عليَّ وسأكون عوناً لك "رد جوتيار"
_أرجوك اذهب معي لمستشفى المدينة فالطريق بعيدةٌ عن قريتنا
+بالتأكيد سأفعل.. هيّا يا عماه فلنغتنم الوقت.
____________
رفعت رأسها من على طاولتها ونظرت له قائلة:
لا شيء ياولدي كل مافي الأمر أن قلبي لا ينسى لحظة ضياع جوتيار مني ،كيف قفزت أنا وتلاشى هو مع ملامح السيارة في الوادي ، قلبي ينفطر ياولدي
•هوني عليكِ يا أماه ..لله ما اعطى ولله ما آخذ
ركبا السيارة وكان جوتيار من يقودها،لوهلةٍ أحسَّ بارتيابٍ من القيادة، كان مسرعاً جداً، بدت الطريق مألوفة لديه ، أحسَّ بحيرةٍ "أمشيت هذه الدرب من قبل؟! " أم أنني أتخيل! فكثيرنا تُخيل له أمورٌ لم تحدث قط معه.
قاطع بيت تساؤلاته الجار القلق " انعطف يميناً الآن ، ومن ثمَّ اسلك ذاك الشارع"
وصلوا إلى المستشفى ودخلوا قسم الطوارىء فحال الفتاة ساءت، دخل الأب و وضع فتاته أمام الطبيب ، يناجي ربه ويأمل علاجاً شافياً.
القسم يعجّ بالموت ،بالحياة، و بالنجاة . من كسرت ساقه وآخر حرقت قدمه ، الكل في صخب!!
وحده جوتيار في ذهول ، عيناه جحظت وبدت أكثر سواداً وبياضاً، الصراخ ينهش رأسه ومنظر الشاب الذي قدم ملطخاً بالدماء أثر حادث دراجة هوائية وأمه تبكيه"طيشك يابنيّ ماذا فعل بك التهور ياولدي ؟ ليت موتي كان قبل موتك يافلذة كبدي؟'"
هزَّ الدفين في جوف جوتيار وعادت به الذاكرة بصخب لسنينه الثلاث الماضيه لدخوله هذه المستشفى ، ذات الأماكن، ذات الأحداث باختلاف الوجوه، الدماء نفسها والصراخ بعينه.
حينها جثا على ركبتيه واضعاً رأسه أرضاً صارخاً "جوتيااار..جوتيااار انتبه سنقع في الوادي!"
أماااه ، أمااااه ... آهٍ يا أمي.
حائراً كنجمٍ ولدَ فجرَ الحياة ، وبقيَ معلقاً بزرقة الصباح.
" اللهمَّ قوة " قال هذا ورمى بجثته المتهالكة على تلٍ من ترابٍ رطب .
التعب أكل من تعابيره وشرب على تجاعيدها كأس القهر.
شعره كقوس قزح ثنائي اللون ، بلونين أساسيين كبياض الموت، وسوادٍ كحياته.
بات صوته يبدع بترانيم الحزن كما الناي هزيل وحزين
التوق أخذ كامل حصته من إرث أيامه ، وبات روتين الفقد يتسكع ببقية ما كان يملك .
هو الانتظار لا شيء آخر ، وحده يهزأ من ابتسامة شفتيه الجافّة.
نهض عن الكومة الرطبة، وكأن عظاماً تتفجر صوتاً حينما نهض .
بتثاقل يسير ويترنّح كورقة أيلول برياح ناعسة
حملَ عكازة ناظريه ومشى ، مشى طويلاً
وصلَ لظلال شجرةٍ بلون الحياة
أسند ظهره عليها ووقف يتأمل لعلّه يتذكر ، فمنذ ثلاث سنوات لم يجد نفسه إلا بقريةٍ جبلية لا ينتمي لها فاقداً لذاكرته ، ولا شيء يعبث بها إلا صوتٌ واحدٌ لأنثى لم تحضر من ذكراها سوى بضع كلمات : " جوتيار...جوتيار انتبه سنقع في الوادي ! "
لا يعلم من هو !
ولا لأي مكانٍ ينتمي!
كل ما يعلم أن آخر من رآه هي!
وآخر من أدخلت على مسامعه حروف اسمه أيضاً هي!
فمن تكون هي !؟
-2-
عصر الثلاثاء منذ حوالي الثلاثة أعوام، الجو معتدل جداً والساعة تقارب الرابعة
الطرقات مزدحمة، والطريق المتجهة من داخل البلاد لمناطقها الساحليه تعج بالسيارات ، على مفرق مدينة جبلية صوت يُسمع من مركبة زرقاء اللون ومسرعة
_سنصل خلال نصف ساعة "قال جوتيار"
+الحمدلله كانت رحلة جيدة لولا تهورك في القيادة "قالت متذمرة"
_لا..لم أسرع كثيراً ، المسافة طويلة والحافلة تلتهم المسافات
+دائم الشغب أنت ،آهٍ منك! ، خفف من سرعتك إن الدرب منحدرة " قالت هذا ونبرة صوتها تختلف"
_لا عليكِ.. تعلمين أني لا أحب أن أصل متأخراً
جاءت لحظة القدر فجأةً
+ " جوتياااار...جوتياااار انتبه سنقع في الوادي" صرخت مدوية ضجيج الموت
سقطت المركبة من عِلُ لتستقر في حضن الوادي
•الخامسة فجراً لعام 2017
استيقظت باكية صارخة من كابوسها الذي جثم على لياليها
إنها الحادثة ذاتها تعاود لذكراها ...
غمرت تفاصيل وجهها بكفيها وبدأت بالنحيب
+" أين أنت ياولدي؟ وعلى أي ثرى مدينة تنام يا أيها الفقيد، آه منك ومن سرعتك ياجوتيار ،وآهٍ من وادٍ غير ذي رحمة ولا حياة .
بنيّ ما عاد لي سندٌ أيا سندي، أيا كلي
اشتاق ضحكاتك كما يشتاق البحر لعطاء الغيمات، تعال وامطرني أو أرقد بسلام!
أمت حقاً؟ أم لم تزل تستنشق ذات هوائي؟ وإن متّ أين جثمانك يا فلذة أحزاني؟! ويا نبض الفقد وعجز استيعابي
كم أناديك وفي صدري آهات كرعد سماء الشتاء.
نهضت من سريرها كما ينهض ثائرٌ بجسده المنقوش بطعنات الحياة،
منكسرة في مشيتها ومترنحة التوازن ..عيناها كالؤلؤتان تشعان حزناً .
خرجت لشرفة منزلها وضمت يديها كما لو أنها ضمت ابنها بهما ورفعتهم لمناجاة ربها
"ربي أعلمني بحاله، إن كان ميتاً أو شارداً بحياته، ربي اثلج غليان عروقي بخبرٍ عنه أو عن ترابه " يرحمك الله يا بنيّ إن كنت فوق الأرض أم تحت طيات التراب
وانهارت باكية على كرسيّ الشرفة البائس واسندت رأسها ناجية ناحبة على طاولةٍ صماء
ايقظها صوتٌ من خلفها أتى
-أمي ماذا تفعلين هنا في هذا الوقت؟
3
مستلقٍ على أريكتهِ، الوقتُ فجرٌ والشمس باردة.
يتتبع دوران مروحة الهواء، سكون الغرفة أشبه بعيونٍ خرساء، كعادته يشرد كثيراً ويفكر "أنا هنا بصحةٍ جيدة ولكن ماذا حلّ بها؟ وأنا لأي مكانٍ انتمي ؟ وأي دينٍ كنت أسير على نهجه؟ ياترى هل...)
شقَّ سكون أفكاره صراخٌ وقرع باباً يكاد يتشقق خشبه من هول السرعة
_ جوتيار ساعدني ابنتي في حالةٍ يرثى لها متعبة جداً " قال هذا جاره"
+ماذا أفعل يا عمّ ، أشر عليَّ وسأكون عوناً لك "رد جوتيار"
_أرجوك اذهب معي لمستشفى المدينة فالطريق بعيدةٌ عن قريتنا
+بالتأكيد سأفعل.. هيّا يا عماه فلنغتنم الوقت.
____________
رفعت رأسها من على طاولتها ونظرت له قائلة:
لا شيء ياولدي كل مافي الأمر أن قلبي لا ينسى لحظة ضياع جوتيار مني ،كيف قفزت أنا وتلاشى هو مع ملامح السيارة في الوادي ، قلبي ينفطر ياولدي
•هوني عليكِ يا أماه ..لله ما اعطى ولله ما آخذ
ركبا السيارة وكان جوتيار من يقودها،لوهلةٍ أحسَّ بارتيابٍ من القيادة، كان مسرعاً جداً، بدت الطريق مألوفة لديه ، أحسَّ بحيرةٍ "أمشيت هذه الدرب من قبل؟! " أم أنني أتخيل! فكثيرنا تُخيل له أمورٌ لم تحدث قط معه.
قاطع بيت تساؤلاته الجار القلق " انعطف يميناً الآن ، ومن ثمَّ اسلك ذاك الشارع"
وصلوا إلى المستشفى ودخلوا قسم الطوارىء فحال الفتاة ساءت، دخل الأب و وضع فتاته أمام الطبيب ، يناجي ربه ويأمل علاجاً شافياً.
القسم يعجّ بالموت ،بالحياة، و بالنجاة . من كسرت ساقه وآخر حرقت قدمه ، الكل في صخب!!
وحده جوتيار في ذهول ، عيناه جحظت وبدت أكثر سواداً وبياضاً، الصراخ ينهش رأسه ومنظر الشاب الذي قدم ملطخاً بالدماء أثر حادث دراجة هوائية وأمه تبكيه"طيشك يابنيّ ماذا فعل بك التهور ياولدي ؟ ليت موتي كان قبل موتك يافلذة كبدي؟'"
هزَّ الدفين في جوف جوتيار وعادت به الذاكرة بصخب لسنينه الثلاث الماضيه لدخوله هذه المستشفى ، ذات الأماكن، ذات الأحداث باختلاف الوجوه، الدماء نفسها والصراخ بعينه.
حينها جثا على ركبتيه واضعاً رأسه أرضاً صارخاً "جوتيااار..جوتيااار انتبه سنقع في الوادي!"
أماااه ، أمااااه ... آهٍ يا أمي.
لمتابعة الكاتبة على صفحتها في الفيس بوك:


إرسال تعليق